فصل: تفسير الآية رقم (47)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الارض جَمِيعاً‏}‏ الخ قيل مستأنف مسوق لبيان آثار الحكم الذي استدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وغاية شدته وفظاعته أي لو أن لهم جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر ‏{‏وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوء العذاب يَوْمَ القيامة‏}‏ أي لجعلوا كل ذلك فدية لأنفسهم من العذاب السيء الشديد وقيل الجملة معطوفة على مقدر والتقدير فأنا أحكم بينهم وأعذبهم ولو علموا ذلك ما فعلوا ما فعلوا، والأول أظهر، وليس المراد إثبات الشرطية بل التمثيل لحالهم بحال من يحاول التخلص والفداء مما هو فيه بما ذكر فلا يتقبل منه، وحاصله أن العذاب لازم لهم لا يخلصون منه ولو فرض هذا المحال ففيه من الوعيد والإقناط ما لا يخفى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ‏}‏ أي ظهر لهم من فنون العقوبات ما لم يكن في حسابهم زيادة مبالغة في الوعيد، ونظير ذلك في الوعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 71‏]‏ والجملة قيل‏:‏ الظاهر أنها حال من فاعل ‏{‏افتدوا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏بِمُسْتَيْقِنِينَ وَبَدَا لَهُمْ‏}‏ حين تعرض عليهم صحائفهم ‏{‏عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ‏}‏ أي الذي كسبوه وعملوه على أن ‏{‏مَا‏}‏ موصولة أو كسبهم وعملهم على أنها مصدرية، وإضافة ‏{‏سَيّئَاتُ‏}‏ على معنى من أو اللام ‏{‏وَحَاقَ‏}‏ أي أحاط ‏{‏بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ‏}‏ أي جزاء ذلك على أن الكلام على تقدير المضاف أو على أن هناك مجازاً بذكر السبب وإرادة مسببه، و‏{‏فِى مَا‏}‏ محتملة للموصولية والمصدرية أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا‏}‏ إخبار عن الجنس بما يغلب فيه، وقيل‏:‏ المراد بالإنسان حذيفة بن المغيرة، وقيل‏:‏ الكفرة ‏{‏ثُمَّ إِذَا خولناه نِعْمَةً مّنَّا‏}‏ أي أعطيناه إياها تفضلاً فإن التخويل على ما قيل مختص به لا يطلق على ما أعطى جزاء ‏{‏قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ‏}‏ أي على علم مني بوجوه كسبه أو بأني سأعطاه لمالي من الاستحقاق أو على علم من الله تعالى بي وباستيجابي، وإنما للحصر أي ما أوتيته لشيء من الأشياء إلا لأجل علم، والهاء للنعمة، والتذكير لتأويلها بشيء من النعم، والقرينة على ذلك التنكير، وقيل‏:‏ لأنها بمعنى الإنعام، وقيل‏:‏ لأن المراد بها المال، وقيل‏:‏ لأنها تشتمل على مذكر ومؤنث فغلب المذكر، وجوز أن يكون لما في ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ على أنها موصولة أي إن الذي أوتيته كائن على علم ويبعد موصوليتها كتابتها متصلة في المصاحف ‏{‏بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ‏}‏ رد لقوله ذلك، والضمير للنعمة باعتبار لفظها كما أن الأول لها باعتبار معناها، واعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى جائز وإن كان الأكثر العكس، وجوز أن يكون التأنيث باعتبار الخبر، وقيل‏:‏ هو ضمير الإتيانة وقرىء بالتذكير فهو للنعمة أيضاً كالذي مر أو للإتيان أي ليس الأمر كما يقول بل ما أوتيه امتحان له أيشكر أم يكفر، وأخبر عنه بالفتنة مع أنه آلة لها لقصد المبالغة، ونحو هذا يقال على تقدير عود الضمير للإتيانة أو الإتيان ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ إن الأمر كذلك وهذا ظاهر في أن المراد بالإنسان الجنس إذ لو أريد العهد لقيل لكنه لا يعلم أو لكنهم لا يعلمون وإرادة العهد هناك وإرجاع الضمير للمطلق هنا على أنه استخدام نظير عندي درهم ونصفه تكلف‏.‏

والفاء للعطف وما بعدها عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 45‏]‏ الخ وهي لترتيبه عليه والغرض منه التهكم والتحميق، وفيه ذمهم بالمناقضة والتعكيس حيث أنهم يشمئزون عن ذكر الله تعالى وحده ويستبشرون بذكر الآلهة فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا من ذكره دون من استبشروا بذكره، وهذا كما تقول‏:‏ فلان يسىء إلى فلان فإذا احتاج سأله فأحسن إليه، ففي الفاء استعارة تبعية تهكمية، وقيل‏:‏ يجوز أن تكون للسببية داخلة على السبب لأن ذكر المسبب يقتضي ذكر سببه لأن ظهور ‏{‏ما لم يكونوا يحتسبون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 47‏]‏ الخ مسبب عما بعد الفاء إلا أنه يتكرر مع قوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏والذين ظَلَمُواْ مِنْ هؤلاء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 51‏]‏ إلى آخره إن لم يتغايرا بكون أحدهما في الدنيا والآخر في الأخرى، وإلى ما قدمنا ذهب الزمخشري، والجمل الواقعة في البين عليه أعني قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلِ اللهم إلى يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 46، 48‏]‏ اعتراض مؤكد للإنكار عليهم، وزعم أبو حيان أن في ذلك تكلفاً واعتراضاً بأكثر من جملتين وأبو علي الفارسي لا يجيز الاعتراض بجملتين فكيف يجيزه بالأكثر، وأنا أقول‏:‏ لا بأس بذلك لا سيما وقد تضمن معنى دقيقاً لطيفاً، والفارسي محجوج بما ورد في كلام العرب من ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ ضمير ‏{‏قَالَهَا‏}‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 49‏]‏ لأنها كلمة أو جملة، وقرىء بالتذكير أي القول أو الكلام المذكور، والذين من قبلهم قارون وقومه فإنه قال ورضوا به فالإسناد من باب إسناد ما للبعض إلى الكل وهو مجاز عقلي‏.‏

وجوز أن يكون التجوز في الظرف فقالها الذين من قبلهم بمعنى شاعت فيهم، والشائع الأول، والمراد قالوا مثل هذه المقالة أو قالوها بعينها ولاتحاد صورة اللفظ تعد شيئاً واحداً في العرف ‏{‏فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ من متاع الدنيا ويجمعونه منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَصَابَهُمْ عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ‏}‏ أي أصابهم جزاء سيئات كسبهم أو الذي كسبوه على أن الكلام بتقدير مضاف أو أنه تجوز بالسيئات عما تسبب عنها وقد يقال لجزاء السيئة سيئة مشاكلة نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ فيكون ما هنا من المشاكلة التقديرية، وإذا كان المعنى على جعل جزاء جميع ما كسبوا سيئاً دل الكلام على أن جميع ما كسبوا سيء إذ لو كان فيه حسن جوزي عليه جزاءً حسناً، وفيه من ذمهم ما فيه‏.‏

‏{‏والذين ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَء‏}‏ المشركين، و‏{‏مِنْ‏}‏ للبيان فإنهم كلهم كانوا ظالمين إذا الشرك ظلم عظيم أو للتبعيض فالمراد بالذين ظلموا من أصر على الظلم حتى تصيبهم قارعة وهم بعض منهم ‏{‏سَيُصِيبُهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ‏}‏ كما أصاب الذين من قبلهم، والمراد به العذاب الدنيوي وقد قحطوا لسبع سنين، وقتل‏:‏ ببدر صناديدهم وقيل العذاب الأخروي، وقيل‏:‏ الأعم، ورجح الأول بأنه الأوفق للسياق، وأشير بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ‏}‏ أي بفائتين على ما قيل إلى العذاب الأخروي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء‏}‏ أن يبسطه له ‏{‏وَيَقْدِرُ‏}‏ لمن يشاء أن يقدر له من غير أن يكون لأحد ما مدخل في ذلك حيث حبس عنهم الرزق سبعاً ثم بسطه لهم سبعاً ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ الذي ذكر ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏ دالة على أن الحوادث كافة من الله تعالى شأنه والأسباب في الحقيقة ملغاة ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ إذ هم المستدلون بها على مدلولاتها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ ياأهل عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي أفرطوا في المعاصي جانين عليها، وأصل الإسراف الإفراط في صرف المال ثم استعمل فيما ذكر مجازاً بمرتبتين على ما قيل، وقال الراغب‏:‏ هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر وهذا ظاهر في أنه حقيقة فيما ذكرنا وهو حسن‏.‏

وضمن معنى الجناية ليصح تعديه بعلى والمضمن لا يلزم فيه أن يكون معناه حقيقياً، وقيل‏:‏ هو مضمن معنى الحمل، وحمل غير واحد الإضافة في ‏{‏عِبَادِى‏}‏ على العهد أو على التشريف، وذهبوا إلى أن المراد بالعباد المؤمنون وقد غلب استعماله فيهم مضافاً إليه عز وجل في القرآن العظيم فكأنه قيل‏:‏ أيها المؤمنون المذنبون ‏{‏لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله‏}‏ أي لا تيأسوا من مغفرته سبحانه وتفضله عز وجل على أن المغفرة مدرجة في الرحمة أو أن الرحمة مستلزمة لها لأنه لا يتصور الرحمة لمن لم يغفر له، وتعليل النهي بقوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً‏}‏ يقتضي دخولها في المعلل، والتذييل بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم‏}‏ كالصريح في ذلك، وجوز أن يكون في الكلام صنعة الاحتباك كأنه قيل‏:‏ لا تقنطوا من رحمة الله ومغفرته إن الله يغفر الذنوب جميعاً ويرحم، وفيه بعد، وقالوا‏:‏ المراد بمغفرة الذنوب التجافي عنها وعدم المؤاخذة بها في الظاهر والباطن وهو المراد بسترها، وقيل‏:‏ المراد بها محوها من الصحائف بالكلية مع التجافي عنها وأن الظاهر إطلاق الحكم وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر كيف لا وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ ظاهر في الإطلاق فيما عدا الشرك، ويشهد للإطلاق أيضاً أمور، الأول‏:‏ نداؤهم بعنوان العبودية فإنها تقتضي المذلة وهي أنسب بحال العاصي إذا لم يتب واقتضاؤها للترحم ظاهر‏.‏ الثاني‏:‏ الاختصاص الذي تشعر به الإضافة إلى ضميره تعالى فإن السيد من شأنه أن يرحم عبده ويشفق عليه‏.‏ الثالث‏:‏ تخصيص ضرر الإسراف المشعرة به ‏{‏على‏}‏ بأنفسهم فكأنه قيل‏:‏ ضرر الذنوب عائد عليهم لا علي فيكفي ذلك من غير ضرر آخر كما في المثل أحسن إلى من أساء كفى المسيء إساءته، فالعبد إذا أساء ووقف بين يدي سيده ذليلاً خائفاً عالماً بسخط سيده عليه ناظراً لإكرام غيره ممن أطاع لحقه ضرر إذ استحقاق العقاب عقاب عند ذوي الألباب‏.‏

الرابع‏:‏ النهي عن القنوط مطلقاً عن الرحمة فضلاً عن المغفرة وإطلاقها‏.‏ الخامس‏:‏ إضافة الرحمة إلى الاسم الجليل المحتوي على جميع معاني الأسماء على طريق الالتفات فإن ذلك ظاهر في سعتها وهو ظاهر في شمولها التائب وغيره‏.‏

السادس‏:‏ التعليل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله‏}‏ الخ فإن التعليل يحسن مع الاستبعاد وترك القنوط من الرحمة مع عدم التوبة أكثر استبعاداً من تركه مع التوبة‏.‏ السابع‏:‏ وضع الاسم الجليل فيه موضع الضمير لإشعاره بأن المغفرة من مقتضيات ذاته لا لشيء آخر من توبة أو غيرها‏.‏ الثامن‏:‏ تعريف الذنوب فإنه في مقام التمدح ظاهر في الاستغراق فتشمل الذنب الذي يعقبه التوبة والذي لا تعقبه‏.‏ التاسع‏:‏ التأكيد بالجميع‏.‏ العاشر‏:‏ التعليل بأنه هو الخ‏.‏ الحادي عشر‏:‏ التعبير بالغفور فإنه صيغة مبالغة وهي إن كانت باعتبار الكم شملت المغفرة جميع الذنوب أو باعتبار الكيف شملت الكبائر بدون توبة‏.‏ الثاني عشر‏:‏ حذف معمول ‏{‏الغفور‏}‏ فإن حذف المعمول يفيد العموم‏.‏ الثالث عشر‏:‏ إفادة الجملة الحصر فإن من المعلوم أن الغفران قد يوصف به غيره تعالى فالمحصور فيه سبحانه إنما هو الكامل العظيم وهو ما يكون بلا توبة‏.‏ الرابع عشر‏:‏ المبالغة في ذلك الحصر‏.‏

الخامس عشر‏:‏ الوعد بالرحمة بعد المغفرة فإنه مشعر بأن العبد غير مستحق للمغفرة لولا رحمته وهو ظاهر فيما إذا لم يتب‏.‏ السادس عشر‏:‏ التعبير بصيغة المبالغة فيها‏.‏ السابع عشر‏:‏ إطلاقها، ومنع المعتزلة مغفرة الكبائر والعفو عنها من غير توبة وقالوا‏:‏ إنها وردت في غير موضع من القرآن الكريم مقيدة بالتوبة فإطلاقها هنا يحمل على التقييد لاتحاد الواقعة وعدم احتمال النسخ، وكون القرآن في حكم كلام واحد

‏[‏بم وأيدوا ذلك بقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ‏}‏ فإنه عطف على ‏{‏لا تقنطوا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ والتعليل معترض، وبعد تسليم حديث حمل الإطلاق على التقييد يكون عطفاً لتتميم الإيضاح كأنه قيل‏:‏ لا تقنطوا من رحمة الله تعالى فتظنوا أنه لا يقبل توبتكم وأنيبوا إليه تعالى وأخلصوا له عز وجل‏.‏

وأجاب بعض الجماعة بمنع وجوب حمل الإطلاق على التقييد في كلام واحد نحو أكرم الفضلاء أكرم الكاملين فضلاً عن كلام لا يسلم كونه في حكم كلام واحد وحينئذٍ لا يكون المعطوف شرطاً للمعطوف عليه إذ ليس من تتمته، وقيل إن الأمر بالتوبة والإخلاص لا يخل بالإطلاق إذ ليس المدعي أن الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن الأمر بهما وتنافي الوعيد بالعذاب‏.‏

وقال بعض أجلة المدققين‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ خطاب للكافرين والعاصين وإن كان المقصود الأولى الكفار لمكان القرب وسبب النزول، فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إن أهل مكة قالوا‏:‏ يزعم محمد صلى الله عليه وسلم أنه من عبد الأوثان ودعا مع الله تعالى إلهاً آخر وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ ياأهل عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ الخ‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد‏.‏ ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول‏:‏ لا يقبل الله تعالى من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً أقوام أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوه فنزلت هؤلاء الآيات وكان عمر رضي الله تعالى عنه كاتباً فكتبها بيده ثم كتب بها إلى عياش وإلى الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا‏.‏

وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال‏:‏ نزلت هذه الآيات الثلاث ‏{‏قُلْ يا عِبَادِى إلى وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53-55‏]‏ بالمدينة في وحشي وأصحابه وتخلل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ بين المعطوفين تعليلاً للجزء الأول قبل الوصول إلى الثاني للدلالة على سعة رحمته تعالى وأن مثله حقيق بأن يرجى وإن عظم الذنب لا سيما وقد عقب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ‏}‏ الآية الدال على انحصار الغفران والرحمة على الوجه الأبلغ فالوجه أن يجري على عمومه ليناسب عموم الصدر ولا يقيد بالتوبة لئلا ينافي غرض التخلل مع أنه جمع محلي باللام، وقد أكد بما صار نصاً في الاستغراق، ولا يغني المعتزلي أن القرآن العظيم كالكلام الواحد وأنه سليم من التناقض بل يضره، وكذلك ما ذكر من أسباب النزول انتهى، وقد تضمن الإشارة إلى بعض مؤكدات الإطلاق التي حكيناها آنفاً، والذي يترجح في نظري ما اختاره من عموم الخطاب في ‏{‏فِى عِبَادِى‏}‏ للعاصين والكافرين، وأمر الإضافة سهل، وإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً‏}‏ مقيد بلمن يشاء بقرينة التصريح به في قراءة عبد الله هنا، وكون الأمور كلها معلقة بالمشيئة ولا نسلم أن متعلق المشيئة التائب وحده، وكونها تابعة للحكمة على تقدير صحته لا ينفع إذ دون إثبات كون المغفرة لغير التائب منافية للحكمة خرط القتاد‏.‏

نعم لا تتعلق بالمشرك ما لم يؤمن لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ فمغفرة الشرك مشروطة بالإيمان فالمشرك داخل فيمن يشاء لكن بالشرط المعروف، واعتبار الشرط فيه لا يضر في عدم اعتبار شرط التوبة في العاصي بما دونه‏.‏

ويشهد لذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ثوبان قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إلى آخر الآية فقال رجل‏:‏ يا رسول الله ومن أشرك‏؟‏ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال‏:‏ الا ومن أشرك ثلاث مرات ‏"‏ لا يقال المغفرة لمن أشرك بشرط الإسلام أمر واضح فلا يجوز أن تخفى على السائل وعليه عليه الصلاة والسلام حتى يسكت لانتظار الوحي أو الاجتهاد لأنا نقول‏:‏ السؤال للاستبعاد من حيث العادة والسكوت لتعليم سلوك طريق التأني والتدبر وإن كان الأمر واضحاً‏.‏

وقيل‏:‏ الظاهر أنه لانتظار الإذن أو الاجتهاد في التصريح بعموم المغفرة فإنهم ربما اتكلوا على ذلك فيخشى التفريط في العمل وهو لا ينافي التعليم فإنه عليه الصلاة والسلام إنما يعلمهم التدبر بعد أن يتدبر هو في نفسه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وزعم أن الحديث دال على اشتراط التوبة ليس بشيء، ويؤيد إطلاق المغفرة عن قيد التوبة ما أخرجه الإمام أحمد‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي‏.‏ وحسنه‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن الأنباري في المصاحف‏.‏ والحاكم‏.‏ وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد قالت‏:‏ «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم» فإنه ليس للا يبالي كثير حسن إن كانت المغفرة مشروطة بالتوبة كما لا يخفى، وكذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن سيرين قال‏:‏ قال علي كرم الله تعالى وجهه أي آية أوسع‏؟‏ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن

‏{‏مَن يَعْمَلُ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 110‏]‏ الآية ونحوها فقال علي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ ما في القرآن أوسع آية من ‏{‏قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 35‏]‏ الآية‏.‏

والمؤكدات السابقة أعني السبعة عشر لا يخلو بعضها عن بحث، والظاهر أن مغفرة ذنب لا تجامع العذاب عليه أصلاً، وذهب بعضهم إلى أنها تجامعه إذا كان انقض من الذنب لا إذا كان بمقداره فمن عذب بمقدار ذنبه في النار، وأخرج منها لا يقال إنه غفر له إذ السيئات إنما تجزى بأمثالها، وقيل‏:‏ تجامعه مطلقاً وكون السيئات لا تجزى إلا بأمثالها بلطفه تعالى أيضاً فهو نوع من عفوه عز وجل وفيه ما فيه فتأمل، وأصل الإنابة الرجوع‏.‏

ومعنى ‏{‏وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 45‏]‏ الخ أي ارجعوا إليه سبحانه بالإعراض عن معاصيه والندم عليها، وقيل‏:‏ بالانقطاع إليه تعالى بالعبادة وذكر الرب كالتنبيه على العلة، وقال القشيري‏:‏ الإنابة الرجوع بالكلية، والفرق بين الإنابة والتوبة أن التائب يرجع من خوف العقوبة والمنيب يرجع استحياء لكرمه تعالى، والإسلام له سبحانه الإخلاص في طاعاته عز وجل، وذكر أن الإخلاص بعد الإنابة أن يعلم العبد أن نجاته بفضل الله تعالى لا بإنابته فبفضله سبحانه وصل إلى إنابته لا بإنابته وصل إلى فضله جل فضله‏.‏ وعن ابن عباس من حديث أخرجه ابن جرير‏.‏ وابن المنذر عنه «من آيس العباد من التوبة فقد جحد كتاب الله تعالى ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله تعالى عليه»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ‏}‏ الظاهر أنه خطاب للعباد المخاطبين فيما تقدم سواء أريد بهم المؤمنون أو ما يعمهم والكافرين، والمراد بما أنزل القرآن وهو كما أنزل إلى المؤمنين أنزل إلى الكافرين ضرورة أنه أنزل عليه صلى الله عليه وسلم لدعوة الناس كافة، والمراد بأحسنه ما تضمن الإرشاد إلى خير الدارين دون القصص ونحوها أو المأمور به أو العزائم أو الناسخ، وأفعل على الأول والثالث على ظاهره وعلى الثاني والرابع فيه احتمالان؛ وقيل‏:‏ لعل الأحسن ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة وأفعل فيه على ظاهره أيضاً، وجوز أن يكون الخطاب للجنس، والمراد بما أنزل الكتب السماوية وبأحسنه القرآن، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر، وفي ذكر الرب ترغيب في الاتباع ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً‏}‏ أي فجأة ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ‏}‏ لا تعلمون أصلاً بمجيئه فتتداركون ما يدفعه

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏أَن تَقُولَ نَفْسٌ‏}‏ في موضع المفعول له بتقدير مضاف، وقدره الزمخشري كراهة وهو منصوب بفعل محذوف يدل عليه ما قبل أي أنذركم وأمركم بأحسن ما أنزل إليكم كراهة أن تقول، ومن لا يشترط للنصب اتحاد الفاعل يجوز كون الناصب ‏{‏أنيبوا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 54‏]‏ أو ‏{‏اتبعوا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 55‏]‏ وأياً ما كان فهذه الكراهة مقابل الرضا دون الإرادة فلا اعتزال في تقديرها، وهو أولى من تقدير مخافة كما فعل الحوفي حيث قال‏:‏ أي أنذرناكم مخافة أن تقول، وابن عطية جعل العامل ‏{‏أنيبوا‏}‏ ولم يقدر شيئاً من الكراهة والمخافة حيث قال‏:‏ أي أنيبوا من أجل أن تقول، وذهب بعض النحاة إلى أن التقدير لئلا تقول؛ وتنكير ‏{‏تَكَلَّمُ نَفْسٌ‏}‏ للتكثير بقرينة المقام كما في قول الأعشى‏:‏ ورب بقيع لو هتفت بجوه *** أتاني كريم ينفض الرأس مغضباً

فأنه أراد أفواجاً من الكرام ينصرونه لا كريماً واحداً، وجوز أن يكون للتبعيض لأن القائل بعض الأنفس واستظهره أبو حيان، قيل‏:‏ ويكفي ذلك في الوعيد لأن كل نفس يحتمل أن تكون ذلك، وجوز أيضاً أن يكون للتعظيم أي نفس متميزة من الأنفس إما بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم، وليس بذاك ‏{‏يَا حَسْرَتي‏}‏ بالألف بدل ياء الإضافة، والمعنى كما قال سيبويه يا حسرتي احضري فهذا وقتك‏.‏ وقرأ ابن كثير في الوقف ‏{‏يا حسرتاه‏}‏ بهاء السكت‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏يا حسرتي‏}‏ بياء الإضافة، وعنه ‏{‏يا حسرتاي‏}‏ بالألف والياء التحتية مفتوحة أو ساكنة جمعاً بين العوض والمعوض كذا قيل، ولا يخفى أن مثل هذا غير جائز اللهم إلا شاذاً استعمالاً وقياساً، فالأوجه أن يكون ثنى الحسرة مبالغة على نحو لبيك وسعديك وأقام بين ظهريهم وظهرانيهم على لغة بلحرث بن كعب من إبقاء المثنى على الألف في الأحوال كلها، واختار ذلك «صاحب الكشف»، وجوز أبو الفضل الرازي أيضاً في كتابه اللوامح أن تكون التثنية على ظاهرها على تلك اللغة، والمراد حسرة فوت الجنة وحسرة دخول النار، واعتبار التكثير أولى لكثرة حسراتهم يوم القيامة ‏{‏نَفْسٌ ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ‏}‏ أي بسبب تفريطي فعلى تعليلية و‏{‏مصدرية‏}‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏ والتفريط التقصير ‏{‏فِى جَنبِ الله‏}‏ أي جانبه، قال الراغب‏:‏ أصل الجنب الجارحة ثم يستعار للناحية والجهة التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال، والمراد هنا الجهة مجازاً، والكلام على حذف مضاف أي في جنب طاعة الله أو في حقه تعالى أي ما يحق له سبحانه ويلزم وهو طاعته عز وجل؛ وعلى ذلك قول سابق البربري من شعراء الحماسة‏:‏ أما تتقين الله في جنب عاشق *** له كبد حرى عليك تقطع

والتفريط في جهة الطاعة كناية عن التفريط في الطاعة نفسها لأن من ضيع جهة ضيع ما فيها بطريق الأولى الأبلغ لكونه بطريق برهاني، ونير ذلك قول زياد الأعجم

إن السماحة والمروءة والندى *** في قبة ضربت على ابن الحشرج

ولا مانع من أن يكون للطاعة وكذا حق الله تعالى بمعنى طاعته سبحانه جهة بالتبعية للمطيع كمكان السماحة وما معها في البيت، ومما ذكرنا يعلم أنه لا مانع من الكناية كما توهم، وقال الإمام‏:‏ سمي الجنب جنباً لأنه جانب من جوانب الشيء، والشيء الذي يكون من لوازم الشيء وتوابعه يكون كأنه جند من جنوده وجانب من جوانبه فلما حصلت المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازماً للشيء وتابعاً له لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب على الحق والأمر والطاعة انتهى‏.‏ وجعلوا في الكلام عليه استعارة تصريحية وليس هنا مضاف مقدر، وليس بذاك‏.‏ وقول ابن عباس‏:‏ يريد على ما ضيعت من ثواب الله، ومقاتل‏:‏ على ما ضيعت من ذكر الله؛ ومجاهد‏.‏ والسدي‏:‏ على ما فرطت في أمر الله، والحسن‏:‏ في طاعة الله، وسعيد بن جبير‏:‏ في حق الله بيان لحاصل المعنى، وقيل‏:‏ الجنب مجاز عن الذات كالجانب أو المجلس يستعمل مجازاً لربه، فيكون المعنى على ما فرطت في ذات الله‏.‏ وضعف بأن الجنب لا يليق إطلاقه عليه تعالى ولو مجازاً، وركاكته ظاهرة أيضاً، وقيل‏:‏ هو مجاز عن القرب أي على ما فرطت في قرب الله‏.‏ وضعف بأنه محتاج إلى تجوز آخر، ويرجع الأمر في الآخرة إلى طاعة الله تعالى ونحوها‏.‏ وبالجملة لا يمكن إبقاء الكلام على حقيقته لتنزهه عز وجل من الجنب بالمعنى الحقيقي‏.‏

ولم أقف على عد أحد من السلف إياه من الصفات السمعية، ولا أعول على ما في المواقف، وعلى فرض العد كلامهم فيها شهير وكلهم مجمعون على التنزيه وسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وفي حرف عبد الله‏.‏ وحفصة ‏{‏فِى ذِكْرِى الله‏}‏ ‏{‏وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين‏}‏ أي المستهزئين بدين الله تعالى وأهله، و‏{‏ءانٍ‏}‏ هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة والجملة في محل النصب على الحال عند الزمخشري أي فرطت في حال سخريتي‏.‏

وقال في «البحر»‏:‏ ويظهر أنها استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا لا حال، والمقصود من ذلك الاخبار التحسر والتحزن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ المتقين‏}‏ أي من الشرك والمعاصي‏.‏

وفسر غير واحد الهداية هنا بالإرشاد والدلالة الموصلة بناء على أنه الأنسب بالشرطية والمطابق للرد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 59‏]‏ الخ، وفسرها أبو حيان بخلق الاهتداء، وأياً ما كان فالظاهر أن هذه المقالة في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً‏}‏ أي رجوعاً إلى الحياة الدنيا ‏{‏فَأَكُونَ مِنَ المحسنين‏}‏ في العقيدة والعمل، و‏{‏لَوْ‏}‏ للتمني ‏{‏فَأَكُونَ‏}‏ منصوب في جوابها، وجوز في «البحر» أن يكون منتصباً بالعطف على ‏{‏كَرَّةٌ‏}‏ إذ هو مصدر فيكون مثل قوله‏:‏ فما لك عنها غير ذكري وحسرة *** وتسأل عن ركبانها أين يمموا

وقول الآخر‏:‏ ولبس عباءة وتقر عيني *** أحب لي من لبس الشفوف

ثم قال‏:‏ والفرق بينهما أن الفاء إذا كانت في جواب التمني كانت أن واجبة الإضمار وكان الكون مترتباً على حصول المتمني لا متمنى، وإذا كانت للعطف على ‏{‏كَرَّةٌ‏}‏ جاز إظهار أن وإضمارها وكان الكون متمني‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏بلى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتي *فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين‏}‏ جواب من الله عز وجل لما تضمنه قول القائل ‏{‏لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 57‏]‏ من نفى أن يكون الله تعالى هداه ورد عليه، ولا يشترط في الجواب ببلى تقدم النفي صريحاً وقد وقع في موقعه اللائق به لأنه لو قدم على القرينة الأخيرة أعني ‏{‏أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 58‏]‏ الخ وأوقع بعده غير مفصول بنيهما بها لم يحسن لتبتير النظم الجليل، فإن القرائن الثلاث متناسبة متناسقة متلاصقة، والتناسب بينهن أتم من التناسب بين القرينة الثانية وجوابها، ولو أخرت القرينة الثانية وجعلت الثالثة ثانية لم يحسن أيضا لأن رعاية الترتيب المعنوي وهي أهم تفوت إذ ذاك، وذلك لأن التحسر على التفريط عند تطاير الصحف على ما يدل عليه مواضع من القرآن العظيم، والتعلل بعدم الهداية إنما يكون بعد مشاهدة حال المتقين واغتباطهم، ولأنه للتسلي عن بعض التحسر أو من باب تمسك الغريق فهو لا حق وتمني الرجوع بعد ذوق النار، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 27‏]‏ وكذلك لو حمل الوقوف على الحبس على شفيرها أو مشاهدتها، وكل بعد مشاهدة حال المتقين وما لقوا من خفة الحساب والتكريم في الموقف، ولأن اللجأ إلى التمني بعد تحقق أن لا جدوى للتعليل‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ إن النفس عند رؤية أهوال يوم القيامة يرى الناس مجزيين بأعمالهم فيتحسر على تفويت الأعمال عليها ثم قد يتعلل بأن التقصير لم يكن مني فإذا نظر وعلم أن التقصير كان منه تمني الرجوع، ثم الظاهر من السياق أن النفوس جمعت بين الأقوال الثلاثة فأو لمنع الخلو، وجيء بها تنبيهاً على أن كل واحد يكفي صارفاً عن إيثار الكفر وداعياً إلى الإنابة واتباع أحسن ما أنزل وتذكير الخطاب في ‏{‏جَاءتْكَ‏}‏ الخ على المعني لأن المراد بالنفس الشخص وإن كان لفظها مؤنثاً سماعياً‏.‏

وقرأ ابن يعمر‏.‏ والجحدري‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ والزعفراني‏.‏ وابن مقسم‏.‏ ومسعود بن صالح‏.‏ والشافعي عن ابن كثير‏.‏ ومحمد بن عيسى في اختياره‏.‏ والعبسى ‏{‏جَاءتْكَ‏}‏ الخ بكسر الكاف والتاء، وهي قراءة أبي بكر الصديق‏.‏ وابنته عائشة رضي الله تعالى عنهما، وروتها أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ والأعمش‏.‏ والأعرج ‏{‏جأتك‏}‏ بالهمز من غير مد بوزن فعتك، وهو على ما قال أبو حيان‏:‏ مقلوب من جاءتك قدمت لام الكلمة وأخرت العين فسقطت الألف‏.‏ واستدل المعتزلة بالآية على أن العبد خالق لأفعال‏.‏ وأجاب الأشاعرة بأن إسناد الأفعال إلى العبد باعتبار قدرته الكاسبة‏.‏ وحقق الكوراني أنه باعتبار قدرته المؤثرة بإذن الله عز وجل لا كما ذهب إليه المعتزلة من أنه باعتبار قدرته المؤثرة أذن الله تعالى أم لم يأذن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏الكافرين وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ‏}‏ بما ينالهم من الشدة التي تغير ألوانهم حقيقة، ولا مانع من أن يجعل سواد الوجوه حقيقة علامة لهم غير مترتب على ما ينالهم، وجوز أن يكون ذلك من باب المجاز لا أنها تكون مسودة حقيقة بأن يقال‏:‏ إنهم لما يلحقهم من الكآبة ويظهر عليهم من آثار الجهل بالله عز وجل يتوهم فيه ذلك‏.‏ والظاهر أن الرؤية بصرية‏.‏ والخطاب إما لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام، وإما لكل من تتأتى منه الرؤية، وجملة ‏{‏وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ‏}‏ في موضع الحال على ما استظهره أبو حيان، وكون المقصود رؤية سواد وجوههم لا ينافي الحالية كما توهم لأن القيد مصب الفائدة، ولا بأس بترك الواو والاكتفاء بالضمير فيها لا سيما وفي ذكرها ههنا اجتماع واوين وهو مستثقل‏.‏ وزعم الفراء شذوذ ذلك، ومن سلمه جعل الجملة هنا بدلاً من ‏{‏الذين‏}‏ كما ذهب إليه الزجاج، وهم جوزوا إبدال الجملة من المفرد، أو مستأنفة كالبيان لما أشعرت به الجملة قبلها وأدركه الذوق السليم منها من سوء حالهم، أو جعل الرؤية علمية والجملة في موضع الثاني، وأيد بأنه قرىء ‏{‏وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ‏}‏ بنصبهما على أن ‏{‏وُجُوهُهُمْ‏}‏ مفعول ثان و‏{‏مُّسْوَدَّةٌ‏}‏ حال منه‏.‏ وأنت تعلم أن اعتبار الرؤية بصرية أبلغ في تفضيحهم وتشهير فظاعة حالهم لا سيما مع عموم الخطاب، والنصب في القراءة الشاذة يجوز أن يكون على الإبدال، والمراد بالذين ظلموا أولئك القائلون المتحسرون فهو من باب إقامة الظاهر مقام المضمر، وينطبق على ذلك أشد الانطباق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى‏}‏ أي مقام ‏{‏لّلْمُتَكَبّرِينَ‏}‏ الذين جاءتهم آيات الله فكذبوا بها واستكبروا عن قبولها والانقياد لها، وهو تقرير لرؤيتهم كذلك، وينطبق عليه أيضاً قوله الآتي‏:‏ ‏{‏وَيُنَجّى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 61‏]‏ الخ‏.‏

وكذبهم على الله تعالى لوصفهم له سبحانه بأن له شريكاً ونحو ذلك تعالى عما يصفون علواً كبيراً، وقيل‏:‏ لوصفهم له تعالى بما لا يليق في الدنيا وقولهم في الأخرى‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 57‏]‏ المتضمن دعوى أن الله سبحانه لم يهدهم ولم يرشدهم، وقيل‏:‏ هم أهل الكتابين، وعن الحسن أنهم القدرية القائلون إن شئنا فعلنا وإن لم يشأ الله تعالى وإن شئنا لم نفعل وإن شاء الله سبحانه؛ وقيل‏:‏ المراد كل من كذب على الله تعالى ووصفه بما لا يليق به سبحانه نفياً وإثباتاً فأضاف إليه ما يجب تنزيهه تعالى عنه أو نزهه سبحانه عما يجب أن يضاف إليه، وحكى ذلك عن القاضي وظاهره يتقضي تكفير كثير من أهل القبلة، وفيه ما فيه، والأوفق لنظم الآية الكرمية ما قدمنا، ولا يبعد أن يكون حكم كل من كذب على الله تعالى عالماً بأنه كذب عليه سبحانه أو غير عالم لكنه مستند إلى شبهة واهية كذلك؛ وكلام الحسن إن صح لا أظنه إلا من باب التمثيل، وتعريض الزمخشري بأهل الحق بما عرض خارج عن دائرة العدل فما ذهبوا إليه ليس من الكذب على الله تعالى في شيء، والكذب فيه وفي أصحابه ظاهر جداً‏.‏ وقرأ أبي ‏{‏أجوههم‏}‏ بإبدال الواو همزة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏لّلْمُتَكَبّرِينَ وَيُنَجّى الله الذين اتقوا‏}‏ ما اتصف به أولئك المتكبرون من جهنم‏.‏ وقرىء ‏{‏ينجى‏}‏ بالتخفيف من الانجاء ‏{‏اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ‏}‏ اسم مصدر كالفلاح على ما في «الكشف» أو مصدر ميمي على ما في غيره من فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده منه، وقال الراغب‏:‏ هي مصدر فاز أو اسم الفوز ويراد بها الظفر بالبغية على أتم وجه كالفلاح وبه فسرها السدي، والباء للملابسة متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول مفيدة لمقارنة تنجيتهم من العذاب لنيل الثواب أي ينجيهم الله تعالى من جهنم مثوى المتكبرين لتقواهم مما اتصف المتكبرون به ملتبسين بفلاحهم وظفرهم بالبغية وهي الجنة، ومآله ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة، وكون الجنة بغية المتقي كائناً من كان مما لا شبهة فيه‏.‏ نعم هي بغية لبعض المتقين من حيث أنها محل رؤية محبوبهم التي هي غاية مطلوبهم ولك أن تعمم البغية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَمَسُّهُمُ السوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ في موضع الحال أيضاً إما من الموصول أو من ضمير ‏{‏مفازتهم‏}‏ مفيدة لكونهم مع التنجية أو الفوز منفياً عنهم على الدوام مساس جنس السوء والحزن، والظاهر أن هذه الحال مقدرة، وقيل‏:‏ إنها مقارنة مفيدة لكون تنجيتهم أو مفازتهم بالجنة غير مسبوقة بمساس العذاب والحزن، ولا يخفى أنه لا يتسنى بالنسبة إلى جميع المتقين إذ منهم من يمسه العذاب ويحزن لا محالة، وعد وجود ذلك لقلته وانقطاعه كلا وجود تكلف بعيد، وجوز أن يراد بالمفازة الفلاح ويجعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ‏}‏ الخ استئنافاً لبيانها كائنة قيل‏:‏ ما مفازتهم‏؟‏ فقيل‏:‏ لا يمسهم الخ‏.‏

والباء حينئذ على ما في «الكشف» سببية متعلقة بينجي أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم‏.‏ وتعقب بأن في جعل عدم الحزن وعدم السوء سبب النجاة تكلفاً فهما من النجاة، والظاهر أنه لو جعلت الباء على هذا الوجه أيضاً للملابسة لا يرد ذلك، وجوز كون المفازة اسم مكان أي محل الفوز، وفسرت بالمنجاة مكان النجاة، وصح ذلك لأن النجاة فوز وفلاح، وجعلت الباء عليه للسببية وهناك مضاف محذوف بقرينة باء السببية وإن المنجاة لا تصلح سبباً أي ينجيهم بسبب منجاتهم وهو الايمان، وهو كالتصريح بما اقتضاه تعليق الفعل بالموصول السابق، وفسره الزمخشري بالأعمال الصالحة، وقواه بما حكاه عن ابن عباس ليتم مذهبه؛ أو لا مضاف بل هناك مجاز بتلك القرينة من إطلاق اسم المسبب على السبب، والجملة بعد على الاحتمالين في هذا الوجه حال ولا يخفى أن المفازة بمعنى المنجاة مكان النجاة هي الجنة والايمان أو العمل الصالح ليس سبباً لها نفسها وإنما هو سبب دخولها فلا بد من اعتباره فلا تغفل، وجوز أن تكون المفازة مصدراً ميمياً من فاز منه أي نجا منه يقال‏:‏ طوبى لمن فاز بالثواب وفاز من العقاب أي ظفر به ونجا، والباء إما للملابسة والجملة بيان للمفازة أي ينجيهم الله تعالى ملتبسين بنجاتهم الخاصة لهم أي بنفي السوء والحزن عنهم، ولا يخفى ركاكة هذا المعنى، وإما للسببية إما على حذف المضاف أو التجوز نظير ما مر آنفاً، ولا يحتاج هنا إلى اعتبار الدخول كما لا يخفى، والجملة في موضع الحال أيضاً‏.‏

وجوز على بعض الأوجه تعلق ‏{‏بِمَفَازَتِهِمْ‏}‏ بما بعده ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وبالجملة الاحتمالات العقلية في الآية كثيرة لأن المفازة إما اسم مصدر أو مصدر ميمي أو اسم مكان من فاز به ظفر أو من فاز منه نجا والباء إما للملابسة أو للسببية أو للاستعانة، وهي إما متعلقة بما قبلها أو بما بعدها وهذه ستة وثلاثون احتمالاً وإذا ضممت إليها احتمال حذف المضاف في بمفازتهم بمعنى منجاتهم أو نجاتهم واحتمال التجوز فيه كذلك وكذا احتمال كون جملة ‏{‏لاَ يَمَسُّهُمُ‏}‏ الخ حالاً من الموصول واحتمال كونها حالاً من ضمير مفازتهم واحتمال كون الحال مقدرة وكونها مقارنة زادت كثيراً، ولا يخفي أن فيها المقبول ودونه بل فيها ما لا يتسنى أصلاً فأمعن النظر ولا تجمد‏.‏ وقرأ السلمي‏.‏ والحسن‏.‏ والأعرج‏.‏ والأعمش‏.‏ وحمزة والكسائي‏.‏ وأبو بكر ‏{‏بمفازاتهم‏}‏ جمعاً لتكون على طبق المضاف إليه في الدلالة على التعدد صريحاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏قُلِ الله خالق كُلّ شَىْء‏}‏ من خير وشر وإيمان وكفر لكن لا بالجبر بل بمباشرة المتصف بهما لأسبابهما فالآية رادة على المعتزلة رداً ظاهراً ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ‏}‏ يتولى التصرف فيه كيفما يشاء حسبما تقتضيه الحكمة، وكأن ذكر ذلك للدلالة على أنه سبحانه الغني المطلق وإن المنافع والمضار راجعة إلى العباد، ولك أن تقول‏:‏ المعنى أنه تعالى حفيظ على كل شيء كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 41‏]‏ وحاصله أنه تعالى يتولى حفظ كل شيء بعد خلقه فيكون إشارة إلى احتياج الأشياء إليه تعالى في بقائها كما أنها محتاجة إليه عز وجل في وجودها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والارض‏}‏ أي مفاتيحها كما قال ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وغيرهم فقيل هو جمع لا واحد له من لفظه، وقيل‏:‏ جمع مقليد وقيل‏:‏ جمع مقلاد من التقليد بمعنى الإلزام ومنه تقليد القضاء وهو إلزامه النظر في أموره، وكذا القلادة للزومها للعنق، وجعل اسماً للآلة المعروفة للإلزام بمعنى الحفظ وهو على جميع هذه الأقوال عربي والأشهر الأظهر كونه معرباً فهو جمع اقليد معرب إكليد وهو جمع شاذ لأن جمع افعيل على مفاعيل مخالف للقياس وجاء أقاليد على القياس ويقال‏:‏ في اكليد كليد بلا همزة، وذكر الشهاب أنه بلغة الروم اقليدس وكليد واكليد منه، والمشهور أن كليد فارسي ولم يشتهر في الفارسية اكليد بالهمزة، وله مقاليد كذا قيل‏:‏ مجاز عن كونه مالك أمره ومتصرفاً فيه بعلاقة اللزوم، ويكنى به عن معنى القدرة والحفظ، وجوز كون المعنى الأول كنائياً لكن قد اشتهر فنزل منزلة المدلول الحقيقي فكنى به عن المعنى الآخر فيكون هناك كناية على كناية وقد يقتصر على المعنى الأول في ازرادة وعليه قيل هنا المعنى لا يملك أمر السماوات والأرض ولا يتمكن من التصرف فيها غيره عز وجل‏.‏ والبيضاوي بعد ذكر ذلك قال‏:‏ هو كناية عن قدرته تعالى وحفظه لها وفيه مزيد دلالة على الاستقلال والاستبداد لمكان اللام والتقديم، وقال الراغب‏:‏ مقاليد السماوات والأرض ما يحيط بها، وقيل‏:‏ خزائنها، وقيل‏:‏ مفاتيحها، والإشارة بكلها إلى معنى واحد وهو قدرته تعالى عليه وحفظه لها انتهى‏.‏

وجوز أن يكون المعنى لا يملك التصرف في خزائن السماوات والأرض أي ما أودع فيها واستعدت له من المنافع غيره تعالى، ولا يخفى أن هذه الجملة إن كانت في موضع التعليل لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 62‏]‏ على المعنى الأول فالأظهر الاقتصار في معناها على أنه لا يملك أمر السماوات والأرض أي العالم بأسره غيره تعالى فكأنه قيل‏:‏ تعالى يتولى التصرف في كل شيء لأنه لا يملك أمره سواه عز وجل، وإن كانت تعليلاً له على المعنى الثاني فالأظهر الاقتصار في معناها على أنه لا قدرة عليها لأحد غيره جل شأنه فكأنه قيل‏:‏ هو تعالى يتولى حفظه كل شيء لأنه لا قدرة لأحد عليه غيره تعالى، وجوز أن تكون عطف بيان للجملة قبلها وأن تكون صفة ‏{‏وَكِيلٌ‏}‏ وأن تكون خبراً بعد خبر فأمعن النظر في ذلك وتدبر‏.‏ وأخرج أبو يعلى‏.‏ ويوسف القاضي في «سننه»‏.‏ وأبو الحسن القطان في المطولات‏.‏ وابن السني في عمل اليوم والليلة‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى‏:‏ له مقاليد السموات والأرض فقال‏:‏ لا إله إلا الله والله أكبر سبحان الله والحمد لله استغفر الله الذي لا إله إلا هو الأول والآخر والظاهر والباطين يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير» الحديث‏.‏

وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أن عثمان جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ اخبرني عن مقاليد السماوات والأرض فقال‏:‏ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير يا عثمان من قالها إذا أصبح عشر مرات وإذا أمسى أعطاه الله ست خصال‏.‏ أما أولهن‏:‏ فيحرس من إبليس وجنوده‏.‏ وأما الثانية‏:‏ فيعطي قنطاراً من من الأجر‏.‏ وأما الثالثة‏:‏ فيتزوج من الحور العين‏.‏ وأما الرابعة‏:‏ فيغفر له ذوبه‏.‏ وأما الخامسة‏:‏ فيكون مع إبراهيم عليه السلام‏.‏ وأما السادسة‏:‏ فيحضره اثنا عشر ملكاً عند موته يبشرونه بالجنة ويزفونه من قبره إلى الموقف فإن أصابه شيء من أهاويل يوم القيامة قالوا له لا تخف إنك من الآمنين ثم يحاسبه الله حساباً يسيراً ثم يؤمر به إلى الجنة فيزفونه إلى الجنة من موقفه كما تزف العروس حتى يدخلوه الجنة بإذن الله تعالى والناس في شدة الحساب‏.‏ وفي رواية العقيلي‏.‏ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر أن عثمان سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن تفسير ‏{‏لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والارض‏}‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ما سألني عنها أحد تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير‏.‏ وفي رواية الحرث بن أبي أسامة‏.‏ وابن مردويه عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏"‏ هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ‏"‏ وبالجملة اختلفت الروايات في الجواب، وقيل في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما‏:‏ إنه ضعيف في سنده من لا تصلح روايته، وابن الجوزي قال‏:‏ إنه موضوع ولم يسلم له وحال الاخبار الآخر الله تعالى أعلم به والظن الضعف‏.‏

والمعنى عليها أن لله تعالى هذه الكلمات يوحد بها سبحانه ويمجد وهي مفاتيح خير السماوات والأرض من تكلم بها من المؤمنين أصابه، فوجه إطلاق المقاليد عليها أنها موصلة إلى الخير كما توصل المفاتيح إلى ما في الخزائن، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم شيئاً من الخير في حديث ابن عباس وعد في الحديث قبله عشر خصال لمن قالها كل يوم مائة مرة وهو بتمامه في «الدر المنثور‏.‏

‏{‏‏{‏والذين كَفَرُواْ بآيات الله أولئك هُمُ الخاسرون‏}‏ معطوف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله خالق كُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 62‏]‏ الخ أي أنه عز شأنه متصف بهذه الصفات الجليلة الشأن والذين كفروا وجحدوا ذلك أولئك هم الكاملون في الخسران، وقيل‏:‏ على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والارض‏}‏ ولا يظهر ذلك على بعض الأوجه السابقة فيه‏.‏

وقيل‏:‏ على مقدر تقديره فالذين اتقوا أو فالذين آمنوا بآيات الله هم الفائزون والذين كفروا الخ، وفيه تكلف‏.‏

وجوز أن يكون معطوفاً على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُنَجّى الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 61‏]‏ فيكون التقدير وينجي الله المتقين والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون وما بينهما اعتراض للدلالة على أنه تعالى مهيمن على العباد مطلع على أفعالهم مجاز عليها، وفيه تأكيد لثواب المؤمنين وفلاحهم وعقاب الكفرة وخسرانهم ولم يقل ويهلك الذين كفروا بخسرانهم ما قاله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيُنَجّى‏}‏ الخ للاشعار بأن العمدة في فوز المؤمنين فضله تعالى فلذا جعل نجاتهم مسندة له تعالى حادثة له يوم القيامة غير ثابتة قبل ذلك بالاستحقاق والأعمال بخلاف هلاك الفكرة فإنهم قدموه لأنفسهم بما اتصفوا به من الكفر والضلال ولم يسند له تعالى ولم يعبر عنه بالمضارع أيضاً، وفي ذلك تصريح بالوعد وتعريض بالوعيد حيث قيل‏:‏ ‏{‏الخاسرون‏}‏ ولم يقل الهالكون أو المعذبون أو نحوه وهو قضية الكرم‏.‏

وعطف الجملة الاسمية على الفعلية مما لا شبهة في جوازه عند النحويين، ومما ذكرنا يعلم رد قول الإمام الرازي‏:‏ إن هذا الوجه ضعيف من وجهين‏:‏ الأول‏:‏ وقوع الفصل الكثير بين المعطوف والمعطوف عليه‏.‏ الثاني‏:‏ وقوع الاختلاف بينهما في الفعلية والاسمية وهو لا يجوز، والإمام أبو حيان منع كون الفاصل كثيراً‏.‏

وقال في الوجه الثاني‏:‏ إنه كلام من لم يتأمل كلام العرب ولا نظر في أبواب الاشتغال‏.‏ نعم قال في «الكشف» يؤيد الاتصال بما يليه دون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُنَجّى‏}‏ أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيُنَجّى الله‏}‏ متصل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 60‏]‏ فلو قيل بعده‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ بئايات الله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 36‏]‏ لم يحسن لأن الأحسن على هذا المساق أن يقدم على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُنَجّى الله‏}‏ على ما لا يخفى ولأنه كالتخلص إلى ما بعده من حديث الأمر بالعبادة والإخلاص إذ ذاك، وهو كلام حسن، ثم الحصر الذي يقتضيه تعريف الطرفين وضمير الفصل باعتبار الكمال كما أشرنا إليه لا باعتبار مطلق الخسران فإنه لا يختص بهم؛ وجوز أن يكون قصر قلب فإنهم يزعمون المؤمنين خاسرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون‏}‏ أي أبعد الآيات المقتضية لعبادته تعالى وحده غير الله أعبد، فغير مفعول مقدم لأعبد و‏{‏تَأْمُرُونّى‏}‏ اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك وقالوا له صلى الله عليه وسلم‏:‏ استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك لفرط غباوتهم ولذا نودوا بعنوان الجهل، وجوز أن يكون ‏{‏أَعْبُدُ‏}‏ في موضع المفعول لتأمروني على أن الأصل تأمروني أن أعبد فحذفت أن وارتفع الفعل كما قيل في قوله‏:‏ ألا أيهذا الزاجري احضر الوغي *** ويؤيد قراءة من قرأ ‏{‏أَعْبُدُ‏}‏ بالنصب، و‏{‏غَيْرِ‏}‏ منصوب بما دل عليه ‏{‏تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ‏}‏ أي تعبدونني غير الله أي أتصيرونني عابداً غيره تعالى، ولا يصح نصبه باعبد لأن الصلة لا تعمل فيما قبلها والمقدر كالموجود، وقال بعضهم‏:‏ هو منصوب به وأن بعد الحذف يبطل حكمها المانع عن العمل، وقرأ ابن كثير ‏{‏تَأْمُرُونّى‏}‏ بالإدغام وفتح الياء‏.‏

وقرأ ابن عامر ‏{‏تأمرونني‏}‏ بإظهار النونين على الأصل، ونافع ‏{‏الله تَأْمُرُونّى‏}‏ بنون واحدة مكسورة وفتح الياء، وفي تعيين المحذوف من النونين خلاف فقيل‏:‏ الثانية لأنها التي حصل بها التكرار، وقيل‏:‏ الأولى لأنها حرف إعراب عرضة للتغيير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ‏}‏ أي من الرسل عليهم السلام ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ‏}‏ أي بالله تعالى شيئاً ما ‏{‏لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين‏}‏ الظاهر أن جملة ‏{‏لَئِنْ‏}‏ الخ نائب فاعل ‏{‏أوحى‏}‏ لكن قيل في الكلام حذف والأصل أوحى إليك لئن أشرت ليحبطن عملك الخ، وإلى الذين من قبك مثل ذلك، وقيل‏:‏ لا حذف، وإفراد الخطاب باعتبار كل واحد منه صلى الله عليه وسلم والمرسلين الموحي إليهم فإنه أوحى لكل ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ‏}‏ الخ بالافراد، وذهب البصريون إلى أن الجمل لا تكون فاعلة فلا تقوم مقام الفاعل، ففي «البحر» أن ‏{‏إِلَيْكَ‏}‏ حينئذ نائب الفاعل، والمعنى كما قال مقاتل أوحى إليك وإلى الذين من قبلك بالتوحيد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ‏}‏ الخ استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وهو كما ترى، وأياً ما كان فهو كلام على سبيل الفرض لتهييج المخاطب المعصوم وإقناط الكفرة والإيذان بغاية شناعة الإشراك وقبحه وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يباشره فكيف بمن عداه، فالاستدلال بالآية على جواز صدور الكبائر من الأنبياء عليهم السلام كما في «المواقف» ليس بشيء، فاحتمال الوقوع فرضاً كاف في الشرطية لكن ينبغي أن يعلم أن استحالة الوقوع شرعية، ولاماً ‏{‏لَقَدِ وَلَئِنِ‏}‏ موطئتان للقسم واللامان بعد للجواب، وفي عدم تقييد الإحباط بالاستمرار على الإشراك إلى الموت دليل للحنفية الذاهبين إلى أن الردة تحبط الأعمال التي قبلها مطلقاً‏.‏ نعم قالوا‏:‏ لا يقضي منها بعد الرجوع إلى الإسلام إلا الحج، ومذهب الشافعي أن الردة لا تحبط العمل السابق عليها ما لم يستمر المرتد على الكفر إلى الموت، وترك التقييد هنا اعتماداً على التصريح به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والاخرة وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏ ويكون ذلك من حمل المطلق على المقيد‏.‏

وأجاب بعض الحنفية بأن في الآية المذكورة توزيعاً ‏{‏فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم‏}‏ ناظر إلى الارتداد عن الدين ‏{‏وَأُوْلئِكَ أصحاب النار‏}‏ الخ ناظر إلى الموت على الكفر فلا مقيد ليحمل المطلق عليه، ومن هذا الخلاف نشأ الخلاف في الصحابي إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أو قبلها ولم يره هل يقال له‏:‏ صحابي أم لا، فمن ذهب إلى الإطلاق قال لا ومن ذهب إلى التقييد قال‏:‏ نعم، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون الإحباط مطلقاً من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام إذ شركه وحاشاه أقبح، وفيه ضعف لأن الغرض تحذير أمته وتصوير فظاعة الكفر فتقدير أمر يختص به لا يتعدى من النبي إلى الأمة لا اتجاه له مع أنه لا مستند له من نقل أو عقل، والمراد بالخسران على مذهب الحنفية ما لزم من حبط العمل فكان الظاهر فتكون إلا أنه عدل إلى ما في النظم الجليل للاشعار بأن كلا من الاحباط والخسران يستقل في الزجر عن الاشراك، وقيل‏:‏ الخلود في النار فيلزم التقييد بالموت كما هو عند الشافعي عليه الرحمة‏.‏

وقرىء ‏{‏لَيَحْبَطَنَّ‏}‏ من أحبط ‏{‏عَمَلُكَ‏}‏ بالنصب أي ليحبطن الله تعالى أو الإشراك عملك، وقرىء بالنون ونصب ‏{‏عَمَلُكَ‏}‏ أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏بَلِ الله فاعبد‏}‏ رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم، والفاء جزائية في جواب شرط مقدر كأنه قيل‏:‏ إن كنت عابداً أو عاقلاً فاعبد الله فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضاً عنه، وإلى هذا ذهب الزمخشري وسلفه في كونها جزائية الزجاج، وأنكر أبو حيان كون التقديم عوضاً عن الشرط، ومذهب الفراء‏.‏ والكسائي أن الفاء زائدة بين المؤكد والمؤكد والاسم الجليل منصوب بفعل محذوف والتقدير الله اعبد فاعبده وقدر مؤخراً ليفيد الحصر‏.‏

وفي الانتصاف مقتضى كلام سيبويه أن الأصل تنبه فاعبد الله فحذفوا الفعل الأول اختصاراً واستنكروا الابتداء بالفاء ومنشأنها التوسط بين المعطوف والمعطوف عليه فقدموا المفعول فصارت الفاء متوسطة لفظاً ودالة على المحذوف وانضاف إليها فائدة الحصر لإشعار التقديم بالاختصاص، واعتبار الاختصاص قيل‏:‏ مما لا بد منه لأنه لم يكن الكلام رداً عليهم فيما أمروه به لولاه فإنهم لم يطلبوا منه عليه الصلاة والسلام ترك عبادة الله سبحانه بل استلام آلهتهم والشرك به عز وجل اللهم إلا أن يقال‏:‏ عبادة الله سبحانه مع الشرك كلا عبادة، والله جل وعلا أغنى الشركاء فمن أشرك في عمله أحداً معه عز وجل فعمله لمن أشرك كما يدل عليه كثير من الأخبار، وقرأ عيسى ‏{‏بَلِ الله‏}‏ بالرفع ‏{‏وَكُنْ مّنَ الشاكرين‏}‏ انعامه تعالى عليك الذي يضيق عنه نطاق الحصر، وفيه إشارة إلى موجب الاختصاص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ أي ما عظموه جل جلاله حق عظمته إذ عبدوا غيره تعالى وطلبوا من نبيه صلى الله عليه وسلم عبارة غيره سبحانه قاله الحسن‏.‏ والسدي، وقال المبرد‏:‏ أصله من قولهم‏:‏ فلان عظيم القدر يريدون بذلك جلالته، وأصل القدر اختصاص الشيء بعظم أو صغر أو مساواة، وقال الراغب‏:‏ أي ما عرفوا كنهه عز وجل‏.‏ وتعقب بأن معرفة كنهه تعالى أي حقيقته سبحانه لا يخص هؤلاء لتعذر الوقوف على الحقيقة، ومن هنا‏:‏ العجز عن درك الإدراك إدراك *** والبحث عن كنه ذات الله إشراك

ولا يخفى أن المسألة خلافية، وما ذكر على تقدير التسليم يمكن دفعه بالعناية‏.‏ نعم أولى منه ما قيل‏:‏ أي ما عرفوه كما يليق به سبحانه حيث جعلوا له سبحانه شريكاً، وظاهر كلام بعضهم أن الكلام على تقدير مضاف أي ما قدروا في أنفسهم وما تصوروا عظمة الله حق التصوف فلم يعظموه كما هو حقه عز وجل حيث وصفوه بما لا يليق بشؤنه الجليلة من الشركة ونحوها، وأياً ما كان فهو متعلق بما قبله من حيث أن فيه تجهيلهم في الإشراك ودعائهم رسوله صلى الله عليه وسلم إليه، وقيل‏:‏ المعنى ما وصفوا الله تعالى حق صفته إذ جحدوا البعث ووصفوه سبحانه بأنه خالق الخلق عبثاً وأنه سبحانه عاجز عن الإعادة والبعث وهو خلاف الظاهر، وعليه يكون للتمهيد لأمر النفخ في الصور، وضمير الجمع على جميع ما ذكر لكفار قريش كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل‏:‏ الضمير لليهود تكلموا في صفات الله تعالى وجلاله فالحدوا وجسموا وجاءوا بكل تخليط فنزلت‏.‏

وقرأ الأعمش حق ‏{‏قَدْرِهِ‏}‏ بفتح الدال، وقرأ الحسن‏.‏ وعيسى‏.‏ وأبو نوفل‏.‏ وأبو حيوة ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ‏}‏ بتشديد الدال ‏{‏حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ بفتح الدال ‏{‏والارض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ‏}‏ الجملة في موضع الحال من الاسم الجليل و‏{‏جَمِيعاً‏}‏ حال من المبتدأ عند من يجوزه أو من يقدر كأثبتها جميعاً كما قيل، وهو جار مجرى الحال المؤكدة في أن العامل منتزع من مضمون الجملة، وفي «التقريب» هو حال من الضمير في ‏{‏قَبْضَتُهُ‏}‏ لأنه بمعنى مقبوضة وكان الظاهر أن يؤخر عنه وإنما قدم عليه ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة أو بعض دون بعض ولكن عن الأرضين كلها أو عن جميع أبعاضها‏.‏ وجاز هذا التقديم لأن المصدر لم يعمل من حيث كونه مصدراً بل لكونه بمعنى اسم المفعول، وقال الحوفي‏:‏ العامل في الحال ما دل عليه قبضته لا هي، وهو كما ترى، و‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ معمول ‏{‏قَبْضَتُهُ‏}‏ وهي في الأصل المرة الواحدة من القبض وتطلق على المقدار المقبوض كالقبضة بضم القاف وجعلت صفة مشبهة حينئذ، وجوز كل من إرادة المقبوضة والمعنى المصدري هنا، والكلام على الثاني على تقدير مضاف أي ذوات قبضته أي يقبضهن سبحانه قبضة واحدة، وقرأ الحسن ‏{‏قَبْضَتُهُ‏}‏ بالنصب على أنه ظرف مختص مشبه بالمبهم ولذا لم يصرح بفي معه وهو مذهب الكوفيين، والبصريون يقولون‏:‏ إن النصب في مثل ذلك خطأ غير جائز وأنه لا بد من التصريح بفي‏.‏

وقرأ عيسى‏.‏ والجحدري ‏{‏مطويات‏}‏ بالنصب على أن ‏{‏السموات‏}‏ عطف على ‏{‏الارض‏}‏ مشاركة لها في الحكم أي والسماوات قبضته، و‏{‏مطويات‏}‏ حال من ‏{‏السموات‏}‏ عند من يجوز مجيء الحال من مثل ذلك أو من ضميرها المستتر في ‏{‏قَبْضَتُهُ‏}‏ على أنها بمعنى مقبوضته أو من ضميرها محذوفاً أي أثبها مطويات، و‏{‏بِيَمِينِهِ‏}‏ متعلق بمطويات أو على أن ‏{‏السموات‏}‏ مبتدأ و‏{‏بِيَمِينِهِ‏}‏ الخبر و‏{‏مطويات‏}‏ حال أيضاً إما من المبتدأ أو من الضمير المحذوف أو من الضمير المستتر في الخبر بناء على مذهب الأخفش من جواز تقديم الحال في مثل ذلك‏.‏

والكلام عند كثير من الخلف تمثيل لحال عظمته تعالى ونفاذ قدرته عز وجل وحقارة الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإضافة إليها بحال من يكون له قبضة فيها الأرض جميعاً ويمين بها يطوي السماوات أو بحال من يكون له قبضة فيها الأرض والسماوات ويمين بها يطوي السماوات من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز بالنسبة إلى المجرى عليه وهو الله عز شأنه، وقال بعضهم‏:‏ المراد التنبيه على مزيد جلالته عز وجل وعظمته سبحانه بإفادة أن الأرض جميعاً تحت ملكه تعالى يوم القيامة فلا يتصرف فيها غيره تعالى شأنه بالكلية كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 56‏]‏ والسماوات مطويات طي السجل للكتب بقدرته التي لا يتعاصاها شيء‏.‏

وفيه رمز إلى أن ما يشركونه معه عز وجل أرضياً كان أم سماوياً مقهور تحت سلطانه جل شأنه وعز سلطانه فالقبضة مجاز عن الملك أو التصرف كما يقال‏:‏ بلد كذا في قبضة فلان، واليمين مجاز عن القدرة التامة، وقيل‏:‏ القبضة مجاز عما ذكر ونحوه والمراد باليمين القسم أي والسماوات مفنيات بسبب قسمه تعالى لأنه عز وجل أقسم أن يفنيها، وهو ما يهزأ منه لا مما يهتز استحساناً له، والسلف يقولون أيضاً‏:‏ إن الكلام تنبيه على مزيد جلالته تعالى وعظمته سبحانه ورمز إلى أن آلهتهم أرضية أم سماوية مقهورة تحت سلطانه عز وجل إلا أنهم لا يقولون‏:‏ إن القبضة مجاز عن الملك أو التصرف ولا اليمين مجاز عن القدرة بل ينزهون الله تعالى عن الأعضاء والجوارح ويؤمنون بما نسبه إلى ذاته بالمعنى الذي أراده سبحانه وكذا يفعلون في الأخبار الواردة في هذا المقام‏.‏

فقد أخرج البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وغيرهم عن ابن مسعود قال‏:‏ جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إنا نجد الله يحمل السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع فيقول‏:‏ أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله عليه الصلاة والسلام ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ الآية، والمتأولون يتأولون الأصابع على الاقتدار وعدم الكلفة كما في قول القائل‏:‏ أقتل زيداً بأصبعي، ويبعد ذلك ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد‏.‏ والترمذي وصححه‏.‏ والبيهقي‏.‏ وغيرهم عن ابن عباس قال‏:‏ مر يهودي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس قال‏:‏ كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه وأشار بالسبابة والأرضين على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه‏؟‏ كل ذلك يشير بأصابعه فأنزل الله تعالى ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ وجعل بعض المتأولين الإشارة إعانة على التمثيل والتخييل‏.‏ وزعم بعضهم أن الآية نزلت رداً لليهودي حيث شبه وذهب إلى التجسيم وإن ضحكه عليه الصلاة واللام المحكي في الخبر السابق كان للرد أيضاً وأن ‏{‏إِنَّ لَهُ‏}‏ في الخبر من كلام الراوي على ما فهم، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر جداً، وجعلوا أيضاً من باب الإعانة على التمثيل وتخييل العظمة فعله عليه الصلاة والسلام حين قرأ هذه الآية، فقد أخرج الشيخان‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وجماعة عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم المنبر ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والارض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ‏}‏ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده ويحركها يقبل بها ويدبر يمجد الرب نفسه أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخرجن به» وفي «صحيح مسلم» عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى ابن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يأخذ الله تعالى سماواته وأرضيه بيديه ويقول‏:‏ أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك‏.‏ ‏"‏ وفي «شرح الصحيح» للإمام النووي نقلاً عن المازري أن قبض النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه وبسطها تمثيل لقبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها وحكاية للمبسوط المقبوض وهو السماوات والأرضون لا إشارة إلى القبض والبسط الذي هو صفة للقابض والباسط سبحانه وتعالى ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليست بجارحة انتهى، ثم إن ظاهر بعض الأخبار يقتضي أن قبض الأرض بعد طي السماوات وأنه بيد أخرى‏.‏

أخرج مسلم عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يطوي الله تعالى السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول‏:‏ أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول‏:‏ أين الجبارون أين المتكبرون‏؟‏، وفي الشرح نقلاً عن المازري أيضاً أن إطلاق اليدين لله تعالى متأول على القدرة، وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه ليكون أوضح وأوكد في النفوس، وذكر اليمين والشمال حتى يتم التأول لأنا نتناول باليمين ما نكرمه وبالشمال ما دون ولأن اليمين في حقنا تقوى لما لا تقوى له الشمال، ومعلوم أن السماوات أعظم من الأرض فأضافها إلى اليمين وأضاف الأرضين إلى الشمال ليظهر التقريب في الاستعارة وإن كان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بأن شيئاً أخف عليه من شيء ولا أثقل من شيء انتهى‏.‏ والصوفية يقولون بالتجلي الصوري مع بقاء الإطلاق والتنزيه المدلول عليه بليس كمثله شيء، والأمر عليه سهل جداً‏.‏ ثم إن التصرف في الأرض والسماوات يكون والناس على الصراط كما جاء في خبر رواه مسلم عن عائشة مرفوعاً، وروى أيضاً عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلاً لأهل الجنة» والكلام في هذا الخبر كالكلام في نظائره، وإياك من التشبيه والتجسيم، وكذا من نسبة ذلك إلى السلف ولا تك كالمعتزلة في التحامل عليهم والوقيعة فيهم، ويكفي دليلاً على جهل المعتزلة بربهم زعمهم أنه عز وجل فوض العباد فهم يفعلون ما لا يشاء ويشاء ما لا يفعلون ‏{‏سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ أي أبعد من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم أو عما يشركونه من الشركاء فسبحان للتعجب وتتعلق به ‏{‏عَنْ‏}‏ بالتأويل بما ذكر و‏{‏مَا‏}‏ تحتمل المصدرية والموصولية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور‏}‏ المشهور أن النافخ فيه ملك واحد وأنه إسرافيل عليه السلام بل حكى القرطبي الإجماع عليه‏.‏ وفي حديث أخرجه ابن ماجه‏.‏ والبزار‏.‏ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً أن النافخ اثنان، ويدل عليه أيضاً أخبار أخر، منها ما أخرجه أحمد‏.‏ والحاكم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ النافخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا ‏"‏ وفي بعض الآثار ما يدل على أنه واحد وأنه شاخص ببصره إلى إسرافيل عليه السلام ما طرف منذ خلقه الله تعالى ينتظر متى يشير إليه فينفخ في الصور‏.‏ والصور قرن عظيم فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن وهب أنه من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة به ثقب دقيقة بعدد الأرواح وفي وسطه كوة كاستدارة السماء والأرض ونحن نؤمن به ونفوض كيفيته إلى علام الغيوب جل شأنه‏.‏ وأنكر بعضهم ذلك وقال‏:‏ هو جمع صورة كما في قراءة قتادة‏.‏ وزيد بن علي ‏{‏فِى الصور‏}‏ بفتح الواو وقد مر الكلام في ذلك، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، وبني الفعل للمفعول لعدم تعلق الغرض بالفاعل بل الغرض إفادة هذا الفعل من أي فاعل كان فكأنه قيل‏.‏ ووقع النفخ في الصور ‏{‏فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الارض‏}‏ أي ماتوا بسبب ذلك، ويحتمل أنهم يغشى عليهم أولاً ثم يموتون، ففي الأساس صعق الرجل إذا غشي عليه من هدة أو صوت شديد يسمعه وصعق إذا مات‏.‏ وفي «صحيح مسلم» من حديث طويل فيه ذكر الدجال ‏"‏ ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أُصغي ليتا ورفع ليتا فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس ‏"‏ وقرىء ‏{‏فَصَعِقَ‏}‏ بضم الصاد ‏{‏إِلاَّ مَن شَاء الله‏}‏ قال السدي‏:‏ جبريل‏.‏ وإسرافيل‏.‏ وميكائيل‏.‏ وملك الموت عليهم السلام، وقيل‏:‏ هم وحملة العرش فإنهم يموتون بعد، وفي ترتيب موتهم اضطراب مذكور في «الدر المنثور»، وقيل‏:‏ رضوان والحور ومالك والزبانية وروى ذلك عن الضحاك، وقيل‏:‏ من مات قبل ذلك أي يموت من في السماوات والأرض إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا؛ قال في البحر‏:‏ وهذا نظير ‏{‏لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 56‏]‏ ومن الغريب ما حكى فيه أن المستثنى هو الله عز وجل، ولا يخفى عليك حاله متصلاً كان الاستثناء أم منقطعاً، وقيل‏:‏ هو موسى عليه السلام وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في تحقيق ذلك، وقيل غير ذلك‏.‏

ويراد بالسماوات على أكثر الأقوال جهة العلو وإلا لم يتصل الاستثناء فإن حملة العرش مثلاً ليسوا في السماوات بالمعنى المعروف، وقيل‏:‏ إنه لم يرد في التعيين خبر صحيح ‏{‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ‏}‏ أي في الصور وهو ظاهر في أنه ليس بجمع وإلا لقيل فيها ‏{‏أخرى‏}‏ أي نفخة أخرى، وهو يدل على أن المراد بالأول ونفخ في الصور نفخة واحدة كما صرح به في مواضع لأن العطف يقتضي المغايرة فلو أريد المطلق الشامل للأخرى لم يكن لذكرها ههنا وجه، و‏{‏أخرى‏}‏ تحتمل النصب على أنها صفة مصدر مقدر أي نفخة أخرى، والرفع على أنها صفة لنائب الفاعل، وعلى الأول كان النائب عنه الظرف‏.‏

وصح في «صحيحي البخاري»‏.‏ ومسلم أن الله تعالى ينزل بين النفختين ماء من السماء جاء في بعض الروايات أنه كالطل بالمهملة وفي بعضها كمني الرجال فتنبت منه أجساد الناس وإن بين النفختين أربعين وهذا عن أبي هريرة مرفوعاً ولم يبين فيه ما هذه الأربعون‏.‏

وفي حديث أخرجه أبو داود أنها أربعون عاماً، وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن العاص قال‏:‏ ينفخ في الصور النفخة الأولى من باب إيلياء الشرقي أو قال الغربي والنفخة الثانية من باب آخر ‏{‏فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ‏}‏ قائمون من قبورهم ‏{‏يُنظَرُونَ‏}‏ أي نتظرون ما يؤمرون أو ينتظروم ماذا يفعل بهم، وقيل‏:‏ يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم‏.‏ وتعقب بأن قولهم عند قيامهم ‏{‏مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 52‏]‏ يأباه ظاهراً نوع إباء‏.‏

وجوز أن يكون قيام من القيام مقابل الحركة أي فإذا هم متوقفون جامدون في أمكنتهم لتحيرهم‏.‏ واعترض بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور فَإِذَا هُم مّنَ الاجداث إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 51‏]‏ ظاهر في خلافه لأن النسل الاسراع في المشي، وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُونَ مِنَ الاجداث سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 43‏]‏ وقرأ زيد بن علي ‏{‏قِيَاماً‏}‏ بالنصب على أن جملة ‏{‏يُنظَرُونَ‏}‏ خبرهم ‏{‏وقياما‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يُنظَرُونَ‏}‏ للفاصلة، أو من المبتدأ عند من يجوز ذلك‏.‏ وفي «البحر» النصب على الحال وخبر المبتدأ الظرف الذي هو ‏{‏إِذَا‏}‏ الفجائية وهي حال لا بد منها إذ هي محط الفائدة إلا أن يقدر الخبر محذوفاً أي فإذا هم مبعوثون أو موجودون قياماً، وإذا نصب ‏{‏قِيَاماً‏}‏ على الحال فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف إن قلنا به وإلا فالعامل هو العامل في الظرف فإن كان ‏{‏إِذَا‏}‏ ظرف مكان على ما يقتضيه ظاهر كلام سيبويه فتقديه فبالحضرة هم قياماً، وإن كان ظرف زمان كما ذهب إليه الرياشي فتقديره ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه هم أي وجودهم، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجثة، وإن كانت ‏{‏إِذَا‏}‏ حرفاً كما زعم الكوفوين فلا بد من تقدير الخبر إلا إن اعتقدنا أن ‏{‏يُنظَرُونَ‏}‏ هو الخبر ويكون عاملاً في الحال انتهى‏.‏

ولعمري أن مذهب الكوفيين أقل تكلفاً، هذا وههنا إشكال بناء على أنهم فسروا نفخة الصعق بالنفخة الأولى التي يموت بها من بقي على وجه الأرض‏.‏ فإنه قد أخرج البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ والإمام أحمد‏.‏ وغيرهم عن أبي هريرة قال‏:‏ «قال رجل من اليهود بسوق المدينة‏:‏ والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه قال‏:‏ أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السموات *وَمَن فِى الارض إِلاَّ مَن شَاء الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 86‏]‏ فأكون أول من يرفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله تعالى» وهو يأبى تفسير النفخة بذلك ضرورة أن موسى عليه السلام قد مات قبل تلك النفخة بألوف سنين، واحتمال أنه عليه السلام لم يمت كما قيل في الخضر وإلياس مما لا ينبغي أن يتفوه به حي، ويدل كما قال بعض الأجلة‏:‏ على أنها نفخة البعث‏.‏

وقال القاضي عياض‏:‏ يحتمل أن تكون هذه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السماوات فتتوافق الآيات والأحاديث وتكون النفخات ثلاثاً وهو اختيار ابن العربي‏.‏ ورده القرطبي بأن أخذ موسى عليه السلام بقائمة العرش إنما هو عند نفخة البعث وادعى أن الصحيح أن ليس إلا نفختان لا ثلاث ولا أربع كما قيل‏.‏

ثم قال‏:‏ والذي يزيح الإشكال ما قال بعض مشايخنا‏:‏ إن الموت ليس بعدم محض بالنسبة للأنبياء عليهم السلام والشهداء فإنهم موجودون أحياء وإن لم نرهم فإذا نفخت نفخة الصعق صعق كل من في السماء والأرض وصعقة غير الأنبياء موت وصعقتهم غشي فإذا كانت نفخة البعث عاش من مات وأفاق من غشي عليه، ولذا وقع في «الصحيحين» فأكون أول من يفيق انتهى، ولا يخفى أنه يحتاج إلى القول بجواز استعمال المشترك في معنييه معاً أو إلى ارتكاب عموم المجاز أو التزام إرادة غشي عليهم وأن موت من يموت بعض الغشي مفاد من أمر آخر فتدبر‏.‏